قال المصنف رحمه الله: [التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن يكون (في) بمعنى (على)] فإذا كانت (في) بمعنى (على)، فكيف إذا جاءت (على) بنفسها؟! فعلى ذلك قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: على السماء، وهذا المعنى ليس بغريب ولا جديد أو لم يرد في لغة العرب، بل هم يعرفونه، وهو أيضاً واضح من كلام الناس، فإذا قال أحد: الناس في الأرض، فليس معنى (في الأرض) أنهم داخل الأرض، أي في جوفها وفي بطنها، فإذا قال: الذهب والبترول في الأرض، فُهِم منه أنها في الباطن؛ لكن إذا قال: الناس في الأرض، فُهِم من ذلك أنهم فوقها، قال تعالى: (( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ))[الأعراف:10] أي أن الله سبحانه وتعالى مكننا من الحياة في الأرض؛ أي: على الأرض، وجعل لنا فيها معايش؛ أي على ظهرها، وفي القرآن آيات كثيرة تدل على ذلك أيضاً، كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون: ((وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ))[طه:71] فهو لا يعني أنه يصلبهم في داخلها، إنما يصلبهم: (عليها)، وكأن: (في) هي في الحقيقة (على) فتكون أولى وأبلغ.
فنقول تقريراً لذلك: (في) تأتي في كلام العرب بمعنى (على)، وعليه من الأدلة والشواهد مالا يحصى.
فإذا كانت (في) بمعنى (على) فلا إشكال، فمعنى قوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] أأمنتم من هو على السماء عليها.
والمعنى الآخر أن تكون السماء بمعنى العلو: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] أي في العلو، والسماء بلغة العرب تطلق على الجرم المشهود، فهي هنا اسم جنس، وعلى العلو مطلقاً، فسماء كل شيء علوه، فإذا نظرنا إلى المراوح نقول: المراوح في سماء البيت، أي في أعلاه، وهذا معروف أيضاً في لغة العرب؛ كما قال ابن الأعرابي: [[كل ما علاك فهو سماء]]، فكل ما كان فوقك فهو سماء، فالبيت سقفه سماء، وأعلى الخيمة سماء كما كانت العرب تقول ذلك، وإذا رأى العرب شيئاً في الفضاء قالوا: هذا في السماء؛ كما في قوله تعالى: (( أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ))[النحل:79] أي: في العلو، ويطلق أيضاً على السحاب سماء، كما قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا))[الفرقان:48] أي: من السحاب، حتى أن العرب يقولون: رعينا السماء؛ أي: رعينا العشب الناتج عن المطر.
وهذا يدل على أن العرب تستعمل كلمة السماء في معاني عدة، ومن ظن أن السماء هي هذا الجرم المشهود المحدود فقط، فهو عجمي لا يعرف من لغة العرب إلا ما قرأ في القاموس.
والخلاصة أن قوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] على أحد معنيين؛ إما بمعنى (أأمنتم من على السماء)، أو (أأمنتم من في العلو)، وعلى يكون المراد هو الله سبحانه وتعالى.
يقول رحمه الله: "لا يختلفون في ذلك" ولهذا لا يذكر أحد من المفسرين أثراً في هذا ولا خلافاً، ولا يمكن أن يختلف المفسرون في ذلك: "ولا يجوز الحمل على غيره" فلا تحمل الآية على غير هذين المعنيين.